2011/09/20

Tree of Life 2011





Tree Of Life
"أنت كل ما أملك، وأنت كل ما أريد امتلاكه"


تنوعت الآراء والأفكار حول هذا الفيلم المثير للجدل، وكان الحسم أخيراً بحصوله على جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي متخطياً الكثير من الأفلام التي اجتمعت من كافة أنحاء العالم، وكان ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم تتويجاً لتحفة سينمائية قلّ أن نرى مثلها. حيث أعاد الفيلم أخيراً شيئاً من هيبة السينما الأمريكية التي فقدت بريقها في السنوات الأخيرة أمام تألق السينما الأوروبية والآسيوية، ولكن المفارقة في الأمر أن فيلم "شجرة الحياة" لم يحمل الكثير من سمات السينما الأمريكية الحديثة بل اتصف بشكل أكبر بالفلسفية وتميز باللمحات الإيمانية الواضحة التي لم تعتنقها هوليوود الملحدة يوماً من الأيام. وإذا كان الفيلم مرشحاً كبيراً للأوسكار المقبل إلا أنه سيضع القائمين على هذه الجائزة في حيرة كبيرة من أمرهم بلا شك لأنه يقدم ما لم يتعودوا عليه من قبل، وبالتالي من المتوقع أن تتخطاه اختيارات أعضاء الأكاديمية في جائزة أفضل فيلم.

كان من المتوقع أن يكون فيلم "شجرة الحياة" معقداً وفلسفياً حتى قبل صدوره وذلك بالنظر إلى خلفية مخرجه "تيرانس ماليك" الذي اعتاد أن يقدم كل عمل من أعماله بعد مدة من الدراسة والتمحيص والتحضير لا تقل عن خمس سنوات. ولكن ما لا شك فيه أن الفيلم جاء مؤكداً لكل ما كان متوقعاً بل وتخطى كل ذلك بمراحل، وهذا ما جعل الفيلم موجهاً لفئة معينة من الناس تحاول فهم السينما الحقيقية بوصفها عاملاً مؤثراً على حياة الناس ومحرضاً للتفكير وليست مجرد أداة للمتعة. فالفيلم يبدأ بمقدمة طويلة يستعرض فيها الكثير من المشاهد الغامضة حول نشأة الكون وتكونه ثم ينتقل بنا إلى استعراض مجرات هذا الكون ونجومه وكواكبه وصولاً إلى كوكب الأرض في النهاية. وعلى كوكب الأرض نرى كافة أشكال الحياة بما في ذلك عصر الديناصورات ونتخطى ذلك إلى مناظر طبيعية خلابة من مروج وأشجار وجبال وبراكين ونعبر بعد ذلك إلى عمق البحر لنرى عجائب المخلوقات الموجودة فيه والتي لا يمكن للعقل تخيلها. وعندما يرى المشاهد كل هذا قد يتساءل ما الرابط بين كل هذه الأشياء، ولماذا رصفها "تيرانس ماليك" أمامنا بهذه الطريقة؟ والجواب على ذلك هو بناء أرضية إيمانية وفلسفية قبل البدء في قصة الفيلم الحقيقية. وقد أكمل رسم هذه اللوحة السريالية ببراعة عن طريق إرفاقها بموسيقى رخيمة هادئة تجعل من كل هذه المناظر إبداعاً لا نجد مثيله في أي فيلم آخر.

تبدأ بعد ذلك قصة الفيلم الحقيقية ببدء حياة جديدة، ونشهد كافة مراحل حياة هذا الإنسان كالشجرة التي تنمو رويداً رويداً، فالبداية كانت جنيناً في رحم الأم ثم طفلاً رضيعاً يملأ عائلته بهجة وسروراً ثم صبياً صغيراً تتكون شخصيته بروية ليكون بعد ذلك نتاج الكثير من عوامل بيئته ومجتمعه. وقد تمكن "تيرانس ماليك" من تلخيص هذه المراحل الهامة بلقطات سريعة متقنة تنتقل بخفة وسرعة لنعرف لاحقاً أن هذا الإنسان هو "جاك أوبرايان" الطفل البريء، وأكبر صبي بين أبناء العائلة الثلاثة.



أغلب مشاهد الفيلم تركز على الصبي "جاك" الذي يعاني من قسوة أبيه وديكتاتوريته في إدارة شؤون العائلة بطريقته أشبه بالعسكرية، وذلك في ظل ضعف شخصية الأم التي لا تستطيع مجابهة الزوج أو التصرف بأي شيء في حضوره، وهذا ما يجعل الصبي يكره أباه رغم حبه واحترامه له، وقد تم المزج بين شعوري الحب والكره بطريقة فريدة تجعل من الأمر مفهوماً بشكل كبير، كما أن الفيلم لا يغفل تكوين صورة واضحة للأبوين ووجهة نظر كل منهما في طريقة التعامل مع الأبناء والعائلة. فالأب يريد بقسوته أن يصبح أبناؤه رجالاً مميزين في المستقبل ويحرص دائماً على توجيههم بطريقته الصارمة الشديدة بل إنه يتهم زوجته أحياناً بأن تساهلها يفسد كل ما يعمل هو لإصلاحه. بينما شخصية الأم تعطف على أبنائها وتمنحهم كل ما تستطيع من حب وحنان لتعوض عنهم ما يواجهونه مع أبيهم القاسي.

ويتجه الفيلم أيضاً إلى استكشاف علاقة الإخوة بين بعضهم، والمحبة فيما بينهم وتشاركهم للحظات اللهو والمرح السعيدة، وبذلك يبني "تيرانس ماليك" صورة كاملة لعائلة تقليدية يمكن أن نراها في أي مكان في العالم ولا يقتصر الأمر على عائلة في "تكساس" الأمريكية لأن هذه العلاقات الإنسانية هي الطبيعية ويجب أن تتشكل بين أفراد جميع العائلات. والأهم من ذلك أن "ماليك" يربط كل ذلك بطريقة غير مباشرة بأفكار إيمانية وخصوصاً بعد أن بدأ مقدمة الفيلم بمشاهد عميقة تؤكد ذلك.

كما تم طرح الكثير من الأفكار منها: شعور فقدان الأحباب ومأساوية رحيلهم عن الدنيا، وعلاقة كل فرد من العائلة بباقي عائلته بالتفصيل حيث رأينا العلاقة بين الإخوة مع بعضهم وعلاقة الأب بأبنائه ونظرة الأبناء اتجاه والدهم، والعلاقة بين الزوجين، وعطف الأم على أبنائها، وحب الأولاد لأمهم الحنون، ومشاعر الشفقة على الآخرين كالمشردين والمعاقين، وبذلك يبني تيرانس ماليك حباً إيمانياً بالبشرية جمعاء، وأخيراً ينتقل إلى علاقة الإنسان بخالقه، وما أعطاه الله تعالى للإنسان من النعم والعطاءات الكبيرة، وذلك من خلال حوارات بريئة بين "جاك" يدعوه فيه ويخاطبه بشكل مباشر لأنه الأقرب إليه وسط هذا الضياع الذي يعيشه.

الفيلم بشكل عام يزخر بالكثير من العلامات الفلسفية والتفكرية، ومن الصعب الإحاطة بجميع الأفكار التي وضعها "تيرانس ماليك" في العمل بشكل رمزي أحياناً وواضح في أحيان أخرى، وهناك الكثير من المشاهد التي لا يفهم الغرض منها، وتحتاج إلى إعادة مشاهدة الفيلم أكثر من مرة لمعرفة المغزى الحقيقي الذي أراد الفيلم إيصاله لنا. وحتماً فإن هذا العمل يستحق عدة مشاهدات لأنه من الأفلام التي كلما شاهدتها وجدت فيها شيئاً جديداً أو فكرة مبهمة غابت عنك في المرات السابقة.

الأداء التمثيلي في الفيلم متقن ومؤثر حيث قدم "براد بيت" شخصية الأب القاسي بكل اقتدار وتمكن من رسم معالم شخصية واضحة الملامح ومقنعة بشكل كبير ، ولا ننسى الأداء الجميل من "شون بين" الذي ظهر في فترات قصيرة جداً من الفيلم ولكن ملامحه حملت الكثير من تعابير المأساة والتأثر وكان أداؤه من المستوى الرفيع كما عودنا، أما "جيسيكا تشاستين" فقد قدمت دور الأم بشكل جميل وخصوصاً أنها مناسبة للدور بوجهها البريء وعيونها الملونة الدامعة. ويبقى أحد أبرز نجوم العمل ومفاجآته هو الطفل "هنتر ماكراكن" الذي استخرج منه "تيرانس ماليك" أداء متفوقاً ومعبراً عن أفكار الصبي المتضاربة ومشاعره المتناقضة نحو والده وكل من حوله من البشر.

باختصار شديد يمكن تلخيص فيلم "شجرة الحياة" بأنه أحد أهم الأفلام التي قدمتها السينما الأمريكية منذ وقت طويل، وهو ناجح من جميع النواحي الإخراجية والأدائية والتقنية، وأهم ما في الفيلم أنه يطرح قصة بسيطة الفكرة ولكن بشكل معقد ورمزي، وهذا قد يجعل من محبي الفيلم عدداً محدوداً من المشاهدين. ولكن من سيحب هذا الفيلم سيضعه في قائمة أفضل الأفلام التي شاهدها لأن هذا الفيلم تحفة سينمائية قلّ أن نرى نظيرها في هذه الأيام. وهو يصلح للمشاهدة مرات عديدة بسبب كثرة أفكاره المهمة وطريقة طرح هذه الأفكار بشكل رمزي وفكري مثير للعقل والقلب معاً.

10/10

4 التعليقات:

Mohamed El-Seginy يقول...

مقالة رائعة .. تيرانس ماليك يبدع قصيدة اخري من الجمال الاستثنائي ,,

ATarakji يقول...

شكراً لك أخي محمد، يسرني إعجابك بالمقالة..

Lunatic Thought يقول...

و10\10 لك على الموضوع المميز من افضل 5 افلام للعام الماضي..

ATarakji يقول...

تسلم على المرور،
الفيلم رائع جداً وهو يتصدر قائمتي لأفضل الأفلام التي أثرت في نفسي..

إرسال تعليق

Alexa

زوارنا اليوم