2012/08/13

Amadeus 1984



Amadeus
"لحن الخطيئة الخالد"



مَن منا لا يعرف الملحن الكبير "وولفغانغ أماديوس موزارت"، ذلك الرجل الذي وصلت ألحانه وأصداء موسيقاه إلى كل مكان، تدخل الأذن إلى القلب فوراً، وترسم معنى مختلفاً للموسيقى الكلاسيكية الرائعة التي تعتبر من أرقى الفنون وأكثرها ملامسة للنفس الإنسانية بانسيابيتها ودفق المشاعر التي تحرضها لدى سامعيها. ولهذا كان على المخرج "ميلوش فورمان" أن يجد الصيغة الأمثل ليقدم للعالم قصة تثير اهتمامهم وتعبر عن شخصية "موزارت" وإرثه الفني الكبير وإظهاره كإنسان قبل أن يكون أيقونة سينمائية خالدة. وكان الخيار الأمثل هو رواية الجانب الآخر لـ "موزارت" وتصوير خفايا شخصيته التي لا يعرفها الكثير من الناس.

يبدأ الفيلم بداية قوية جداً، مع سماع صياح شخص عجوز يقول: "لقد قتلت موزارت". لنعرف فيما بعد أن هذا الرجل هو الملحن الكبير "أنتونيو سالييري" الذي كان ملحن القصر في مدينة "فيينا". ولكن هل صحيح أن "سالييري" هو من قتل "موزارت" فعلاً؟! الجواب يأتينا بين ثنايا هذا الفيلم الرائع الذي لم يكن فيلم سيرة ذاتية بكل معنى الكلمة بقدر ما كان مزيجاً من مشاعر إنسانية متناقضة.

ينقسم الفيلم إلى ثلاث أقسام أساسية، أولها مرحلة الصعود وفيها تعريف بشخصية "موزارت" الذي كان عبقرياً موسيقياً بالفطرة فكان يعزف في بلاط الأمراء والبابوات منذ نعومة أظفاره، وكان يرسم أمامه مستقبلاً باهراً منذ رأت عيناه النور، ولذلك نشأ "موزارت" فتى مدللاً واثقاً من نفسه متخطياً بذلك في غالب الأحيان حدود الذوق واللياقة.

يروي لنا "سالييري" لقاءه الأول بـ "موزارت" بعد أن أصبح شاباً، فلم يرى فيه إلا ذلك الشاب ذا النفس البذيئة التي تستمرئ ملاحقة الفتيات ولم يكن يعرف شيئاً عن أي التزام باحترام غيره أو إقامة أي اعتبار للناس من حوله مهما علا شأنهم، وبهذا فقد رسم الفيلم لنا صورة صادمة عن شخصية "موزارت" بشكل لم يكن ليتوقعه الكثيرون من هذا الملحن العظيم، وكانت ضحكته التافهة لا توحي بأنه شخص متوازن، ولكن كل هذا لم يمنع الجميع من الإعجاب بعبقريته الفذة في تأليف ألحان تختلف عن أي موسيقى سمعوها سابقاً.

النص السينمائي كان متميزاً في عرض قصة ظهور "موزارت" من وجهة نظر "سالييري" الذي كان معجباً بعبقرية "موزارت" ولكن نيران الحسد والغيرة بدأت تأكل قلبه، وكان أكثر ما يشعل النيران في داخله هو اختيار "موزارت" بالرغم من سوقيته وفحشه ليكون حامل رسالة الموسيقى التي يعتبرها "سالييري" رسالة إلهية يجب أن يحملها شخص ما إلى أهل الأرض، وهذه الفكرة صنعت في نفس "سالييري" صراعاً جدلياً وأخلاقياً، فهل يحق له أن يعادي شخصاً اختاره الله ليضع فيه سر الفن؟!

نتابع مع رواية "سالييري" لنرى مراحل تصاعد شهرة "موزارت" حتى أصبح اسمه أشهر من نار على علم، وصارت موسيقاه علامة مسجلة يسعى كل أصحاب النفوذ لاستحضارها والاستمتاع بها، ويستعرض الفيلم لنا مواهب "موزارت" الكبيرة فهو يستطيع إعادة عزف أي مقطوعة موسيقية بمجرد سماعها لمرة واحدة، كما يمكنه أن يعزف الموسيقى بشكل معكوس، والأهم من ذلك هو قدرة أذنه الموسيقية على ارتجال وتأليف قطعة موسيقية بشكل فوري وفي أي وقت. وهنا يأتي دور "جوزيف الثاني" ليعرض على "موزارت" وظيفة هامة ستغير حياته إلى الأبد بعد أن أثار إعجابه بهذه المواهب الهائلة، وبدوره يعرض عليه "موزارت" أن يكتب له أوبرا غنائية باللغة الألمانية متخطياً بذلك القاعدة السائدة آنذاك بأن الأوبرا تكون باللغة الإيطالية - لغة الفن الراقي - وهنا تبدأ المرحلة الجديدة من حياة مبدعنا. 

المرحلة الثانية هي ذروة فن "موزارت" وأوج الإبداع حيث تمكن بعد الأوبرا التي قدمها أن يؤكد أنه موهبة لا يشق لها غبار، ويعترف "سالييري" نفسه بأن ما سمعه كان شيئاً مبهراً، ويقول عن ألحان "موزارت": "إذا أضيفت نغمة واحدة سيصبح ذلك زائداً عن الحد، وإذا أزيلت نغمة واحدة سينهار كل شيء" وكان اعترافه مزيجاً غريباً من الإعجاب والحسد، وهذا يدفعه إلى البدء في التخطيط للانتقام من "موزارت" وتدميره إلى الأبد وتحين كل فرصة للنيل منه.

ولكن في هذا الوقت كان "موزارت" يبدو في ذروة قوته الفنية وكانت زوجته اللطيفة "ستانزي" تدعمه بكل ما تستطيع من حب رغم معرفتها بأنه شخص لعوب لا يمكن الوثوق بصدقه. ولكنها مع ذلك استمرت في رعاية هذا الرجل العظيم، وكانت دائماً العقل المدبر له في أمور أعماله وخصوصاً المالية منها. 
أما الشخصية الأخرى التي كانت ذات تأثير كبير فهي شخصية الأب "ليوبولد موزارت" الذي كان له نفوذ واضح على شخصية ابنه "أماديوس" ولذلك فقد كان لموت الأب لاحقاً أكبر الأثر على حياة "موزارت" وتماسكه العقلي.

بموت والد "موزارت" تبدأ المرحلة الثالثة من حياته فقدم موسيقى "دون جيوفاني" المهيبة التي ظهر فيها رثاؤه لأبيه، وظهرت فيها كل سوداوية كانت تكمن في نفس "موزارت"، وهنا رأى "سالييري" الفرصة سانحة لرسم معالم خطته التي ستمكنه من تحطيم أسطورة "موزارت" بشكل نهائي. فبعد أن أصبح "موزارت" يتخبط في اختيار أعماله أرسل "سالييري" إلى "موزارت" رسولاً ليكلفه بتأليف موسيقى المرثية الشهيرة Requiem التي كانت تذكره دائماً بموت والده، وهذا كان يؤثر على صحة "موزارت" وسلامته العقلية وهذا سبب له مرضاً قاسياً يكاد يذهب بحياته.

مشهد الانتقام الأخير كان رهيباً جداً، ويرينا مدى قسوة "سالييري" في تنفيذ انتقامه من هذا المبدع الكبير، فصور لنا الفيلم لحظات "موزارت" الأخيرة وهو يؤلف بمساعدة "سالييري" مرثيته الرائعة التي هي بمثابة رثاء حقيقي لـ "موزارت" الذي كان في قمة ضعفه وانحداره. وكان هذا المشهد لوحده عبقرياً بكل معنى الكلمة فهو تلخيص لكل الفيلم لنرى من خلاله قناع النفاق الذي يرتديه الإنسان عندما يصل إلى مرحلة منحطة بسبب الغيرة والحسد، وكان أداء كل من  "موراي أبراهام" بدور "سالييري" و "توم هولس" بدور "موزارت" مبهراً بحق. 

أخيراً يسدل الستار عن حياة هذا العبقري الفذ بمشهد مهيب وهو يتجه نحو قبره ضمن تابوت أسود ثم ليلقى في المقبرة الجماعية، وينهال عليه التراب ليخط خاتمة لكل الفن الذي عاش "موزارت" من أجله وقدم له الكثير رغم أنه توفي في عمر صغير جداً.

على الصعيد الفني فالفيلم كان في أقصى حالات الإبداع والإبهار، ولم يوفر "ميلوش فورمان" جهداً في إضفاء الكثير والكثير من  التفاصيل الدقيقة التي أعادت أمامنا حقبة تاريخية كاملة ببهاء، وكان الإخراج في القمة ليؤكد لنا أن "فورمان" هو اسم لا يستهان بقدرته الهائلة على صنع فيلم من أفضل أفلام السيرة الذاتية ضمن إطار مليء بالإمتاع والإقناع. وشخصياً فأنا لم أستطع  أن أوقف الفيلم للحظة واحدة رغم مدة عرضه الطويلة التي تربو على ثلاث ساعات، وهذا يؤكد مدى الإتقان في عرض القصة المثيرة للاهتمام.

أداءات الممثلين كانت مذهلة وكان هناك تكامل واضح بين الشخصيات فاستطاع "توم هولس" أن يرسم لنا معالم شخصية "موزارت" بكل بذاءته وفحشه ومزاحه السوقي، وخصوصاً ضحكته الساخرة التي لا تعبر عن شخص متزن عقلياً، ولكنه رغم ذلك استطاع ترسيخ صورة الفنان صاحب الأذن الموسيقية والعبقري الذي لا يشق له غبار، وكان أداؤه جديراً بالاحترام. وربما كان من سوء حظه أنه ترشح أمام "موراي أبراهام" للأوسكار في فئة أفضل ممثل بدور رئيسي لأن هذا الأخير أدى دور "سالييري" بشكل أكثر من مذهل وتمكن من إظهار كل مشاعر الغيرة والحسد والإعجاب والنفاق في مزيج غريب، ليضع أمامنا صورة مقنعة لشخصية إنسانية بالدرجة الأولى، وقد استحق الأوسكار عن دوره هذا بكل جدارة.

النقطة المضيئة في الفيلم أنه اختار موسيقى "موزارت" نفسه لتكون هي الموسيقى التصويرية لكامل الفيلم مؤكداً على كلاسيكية هذا العمل، وكان اختيار المقطوعات الموسيقية دقيقاً جداً، فكانت كل مقطوعة تعبر عن الحالة النفسية للشخصيات وسير الأحداث العامة للفيلم رغم أن الخيارات لم تخرج أبداً عن الموسيقى التي ألفها "موزارت" وهذه كانت نقطة مثيرة للاحترام وأضفت لمسة رائعة جداً.

وفي إشارة أخيرة يجب أن أثني على بقية العوامل الفنية من تصوير رائع يتكامل مع روعة موسيقى "موزارت" ليرسم معالم لوحة إنسانية فريدة. والديكورات والملابس كانت في منتهى الجمال وتمكنت من نقل كل تفاصيل الفترة التاريخية وكانت عاملاً مهماً في زيادة إقناع الفيلم بل وإبهاره اللامتناهي.

نص الفيلم تم بناؤه على رواية تاريخية تقول إن "سالييري" كان هو سبب موت "موزارت" وهذه الرواية ليست مثبتة بشكل لا يقبل الشك، وهي بذلك صحيحة تقبل الخطأ، ولكن عندما اعتمد "ميلوش فورمان" على هذه القصة في صناعة الفيلم الأهم عن حياة "موزارت" والذي أشك أن أحداً بعده سيحاول المساس بقصة "موزارت" مرة ثانية فإن "فورمان" بذلك قد أثبت هذه القصة في عقول الجميع وأعطاها مصداقية لم يعد بالإمكان تغييرها، وبذلك فهذا الفيلم كتب التاريخ بشكل نهائي لم يعد يقبل التشكيك، وبالتأكيد لو رأى "موزارت" هذا العمل العظيم لصفقق إعجاباً له ثم ألف مقطوعة موسيقية للاحتفال بهذا الفن المذهل..

تقييمي الشخصي: 10\10

1 التعليقات:

غير معرف يقول...

مشاهدتي قديمة نوعا ما ولكن لا زلت أتذكر مقتطفات من هذه التحفة ..
لن أبالغ ان قلت أن مقطوعتك التي كتبتها بحق هذا العمل عظيمة ويستحقها كثيرا ..
شكراَ لكل أحرفك عمار

إرسال تعليق

Alexa

زوارنا اليوم